فصل: (سورة هود: الآيات 36- 37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قُلْنَا احمل فِيهَا} أي في السفينة: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} قال المفسرون أراد بالزوجين: اثنين ذكرًا وأنثى، وقال أهل المعاني: كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه، فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجًا، يقال له: زوجا نعال إذا كانت له نعلان وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45]، وقال بعضهم: أراد بالزوجين الضربين والصنفين وكل ضرب يدعى زوج، قال الأعشى:
وكل زوج من الديباج يلبسه ** أبو قدامة محبوّ بذاك معا

أراد كل ضرب ولون. وقال لبيد:
وذي [...] كرّ المقاتل صولة ** وذرّته أزواج [...] يشرّب

أي ألوان وأصناف، وقرأ حفص هاهنا وفي سورة المؤمنين: {مِن كُلٍّ} بالتنوين أي من كل صنف، وجعل اثنين على التأكيد.
{وَأَهْلَكَ} أي واحمل أهلك ومالك وعيالك: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} بالهلاك يعني امرأته راحلة وابنه كنعان.
{وَمَنْ آمَنَ} يعني واحمل من آمن بك، قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} واختلفوا في عددهم، فقال قتادة والحكم وابن جريج ومحمد بن كعب القرضي: لم يكن في السفينة إلاّ نوح وامرأته وثلاثة بنيه، سام وحام ويافث أخوة كنعان وزوجاتهم وَرَحْلِهم فجميعهم ثمانية، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا الله نوحٌ أن يغير نطفته فجاء بالسودان. وقال الأعمش: كانوا سبعة: نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين له. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم: نوح وبنوه حام وسام ويافث وستة أناس ممن كان آمن معه وأزواجهم جميعًا.
وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم، فكان الجميع ثمانية وسبعين نفسًا، نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساء.
قال ابن عباس: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانًا أحدهم جرهم.
قال مقاتل: وحمل نوح معه جسد آدم وجعله معترضًا بين الرجال والنساء، وحمل نوح جميع الدواب من الغنم والوحوش والطير وفرق فيما بينها.
قال ابن عباس: أول ما حمل نوح في السفينة من الدواب الأوزة، وآخر ما حمل الحمار، فلمّا دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول له: ادخل فينهض فلا يمشي، حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال له نوح: ما أدخلك عليّ يا عدو الله؟ فقال له: ألم تقل ادخل وان كان الشيطان معك، قال نوح: اخرج عني يا عدو الله، قال: ما لك بدّ من أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك.
وفي تفسير مالك بن إبراهيم الهروي الذي أخبرني بالأسناد إلى أبي القاسم والحسن بن محمد ببعضه قراءةً وأجاز لي بالباقي في غير مرة، قال يحدثنا أبو العباس محمد بن الحسن الهروي، قال: حدثنا جابر بن عبد الله عنه أن الحية والعقرب أتيا نوحًا فقالتا: احملنا، فقال نوح: إنكما سبب الضرّ والبلايا والأوجاع فلا أحملكما، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك بأن لا نضر أحدًا ذكرك، فمن قرأ حين خاف ضرّتهما: {سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} [الصافات: 79-81] ما ضرّتاه.
{وَقَالَ} نوح لهم: {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها} قرأ أبو رجاء العطاردي: مُجرِاها ومُرسِاها بضم الميمين وكسر الراء والسين وهي قراءة عبدالله.
قال ابن عباس: مجريها حيث تجري ومرساها حيث ترسو، أي تحسر في الماء.
وقرأ محمد بن محيصن بفتح الميمين وهما مصدران، يعني أن الله تعالى بيده جريها ورسوّها أي ثبوتها، جرى يجري جريًا ومجرى، ورسا يرسو رسوًّا ومُرسى، مثل ذهب مذهبًا وضرب مضربًا. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسًا وأهوال معشر ** عليَّ حرامٌ لو يسرّون مقتلي

أي: قتلي.
وقرأ الباقون بضم الميمين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، ومعناه: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، كقوله تعالى: {أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا} [المؤمنون: 29]: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] بمعنى الإنزال والإدخال والإخراج.
{إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال الضحاك: كان نوح إذا أراد أن يرسو قال: بسم الله، فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت.
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال ونادى نُوحٌ ابنه} كنعان وكان عنيدًا وقيل وكان كافرًا.
{وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} عنه لم يركب معه الفلك.
{يا بني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} فتهلك، قال له ابنه: {سآوي} سأصير وأرجع: {إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} يمنعني: {مِنَ الماء} ومنه عصام القربة الذي [يربط] رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها.
{قَالَ} نوح: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} عذاب الله إلاّ من رحمناه، وأنقذناه منه، ومن في محل رفع، وقيل: في محل النصب ومعناه لا معصوم اليوم من أمر الله إلاّ من رحمه الله، كقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] [القارعة: 7] و: {مَّاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] قال الشاعر:
بطيء القيام رخيم الكلام ** أمسى فؤادي به فاتنا

أي مفتونًا.
{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ} فصار: {مِنَ المغرقين وَقِيلَ} بعدما تناهى أمر الطوفان: {يا أرض ابلعي} أي اشربي: {مَاءَكِ وياسماء أَقْلِعِي} امسكي: {وَغِيضَ الماء} فذهب ونقص ومصدره الغيض والغيوض.
{وَقُضِيَ الأمر} أي وفرغ من العذاب: {واستوت} يعني السفينة استقرّت ورست وحلّت: {عَلَى الجودي} وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل، قال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلاّ ينالها الماء فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعًا وتواضع الجودي وتطامن لأمر ربّه فلم يغرق، فأرسيت السفينة عليه.
{وَقِيلَ بُعْدًا} هلاكًا: {لِّلْقَوْمِ الظالمين} الكافرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في أوّل يوم من رجب وفي بعض الأخبار: لعشر مضت من رجب ركب نوح في السفينة فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر، ومرّت بالبيت فطاف به سبعًا وقد رفعه الله من الغرق، وأرسيت السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح وأمر جميع من معه من الوحوش والدواب فصاموا شكرًا لله عزّ وجلّ».اهـ.

.قال الزمخشري:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)}
أى أرسلنا نوحًا بأنى لكم نذير. ومعناه أرسلناه ملتبسًا بهذا الكلام، وهو قوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} بالكسر، فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في كَأَنْ والمعنى على الكسر، وهو قولك: إنّ زيدا كالأسد. وقرئ بالكسر على إرادة القول: {أَنْ لا تَعْبُدُوا} بدل من {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ أو تكون «أن» مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازى لوقوع الألم فيه. فإن قلت: فإذا وصف به العذاب؟ قلت: مجازى مثله، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهارك صائم، وجدّ جدّه.

.[سورة هود: آية 27]

{فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)}
{الْمَلَأُ} الأشراف من قولهم: فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقًا له، وقد ملؤوا بالأمر، لأنهم ملؤوا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها. أو لأنهم يتمالئون أي يتظاهرون ويتساندون، أو لأنهم يملئون القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة {ما نَراكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنا} تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأنّ اللّه لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: وما نرى لكم علينا من فضل. أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكا لا بشر. والأراذل جمع الأرذل، كقوله أَكابِرَ مُجْرِمِيها «أحاسنكم أخلاقًا» وقرئ: {بادى الرأى}، بالهمز وغير الهمز، بمعنى: اتبعوك أوّل الرأى أو ظاهر الرأى، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أوّل رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. أرادوا: أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زلّ عنهم أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحدًا من اللّه وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلا أن يجعله سببًا في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من اللّه، والتشرف بما هو ضعة عند اللّه {مِنْ فَضْلٍ} من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة. {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ} فيما تدّعونه.

.[سورة هود: الآيات 28- 32]

{قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)}
{أَرَأَيْتُمْ} أخبرونى {إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ} على برهان {مِنْ رَبِّي} وشاهد منه يشهد بصحة دعواي {وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة. فإن قلت: فقوله: {فَعُمِّيَتْ} ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرئ: {فعميت} بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبى: فعماها عليكم. فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدى ولا يهدى غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمى على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. فإن قلت: فما معنى قراءة أبىّ؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم اللّه وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ} يعنى أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعًا. ويجوز أن يكون الثاني منفصلا كقولك: أنلزمكم إياها. ونحوه {فَسَيَكْفِيكَهُمُ} اللَّهُ ويجوز: فسيكفيك إياهم. وحكى عن أبى عمرو إسكان الميم. ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكونا. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر. والضمير في قوله: {لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} راجع إلى قوله لهم: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}. وقرئ: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} بالتنوين على الأصل. فإن قلت: ما معنى قوله: {إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ}؟ قلت: معناه أنهم يلاقون اللّه فيعاقب من طردهم. أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم.
أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادئ الرأى من غير نظر وتفكر.
وما علىّ أن أشق عن قلوبهم وأ تعرّف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون.
ونحوه: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية. أو هم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة {تَجْهَلُونَ} تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل، من قوله:
أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا

أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم {مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} من يمنعني من انتقامه {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء {أَعْلَمُ الْغَيْبَ} معطوف على {عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ} أي لا أقول عندي خزائن اللّه، ولا أقول: أنا أعلم الغيب. ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن اللّه فأدعى فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلى بقولكم {وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} ولا أدعى علم الغيب حتى تنسبونى إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعى وضمائر قلوبهم {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن اللّه لن يؤتيهم خيرًا في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولا على هواكم {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إن قلت شيئًا من ذلك، والازدراء: افتعال من زرى عليه إذا عابه. وأزرى به: قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه.
{جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا} معناه: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته، كقولك: جاد فلان فأكثر وأطاب فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المعجل.

.[سورة هود: الآيات 33- 35]

{قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
{إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} أي ليس الإتيان بالعذاب إلىّ إنما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه {إِنْ شاءَ} يعنى إن اقتضت حكمته أن يعجله لكم. وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: فأكثرت جدلنا. فإن قلت: ما وجه ترادف هذين الشرطين؟ قلت: قوله: {إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} جزاؤه ما دلّ عليه قوله: {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك: إن أحسنت إلىّ أحسنت إليك إن أمكننى. فإن قلت: فما معنى قوله: {إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}؟ قلت: إذا عرف اللّه من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه، سمى ذلك إغواء وإضلالا، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوى فلطف به: سمى إرشادًا وهداية. وقيل: {أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أن يهلككم من غوى الفصيل غوى، إذا بشم فهلك. ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح اللّه ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحى؟ {فَعَلَيَّ إِجْرامِي} وإجرامى بلفظ المصدر والجمع، كقوله: {واللّه يعلم إسرارهم} وأسرارهم. ونحو: جرم وأجرام قفل وأقفال. وينصر الجمع أن فسره الأولون بآثامى. والمعنى: إن صح وثبت أنى افتريته، فعلىّ عقوبة إجرامى أي افترائى. وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عنى وتتألبوا علىّ {وَأَنَا بَرِيءٌ} يعنى ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه. ومعنى {مِمَّا تُجْرِمُونَ} من إجرامكم في إسناد الافتراء إلىّ فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم.

.[سورة هود: الآيات 36- 37]

{وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
{لَنْ يُؤْمِنَ} إقناط من إيمانهم، وأنه كالمحال الذي لا تعلق به للتوقع {إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، وقد للتوقع وقد أصابت محزها {فَلا تَبْتَئِسْ} فلا تحزن حزن بائس مستكين. قال:
مَا يَقْسِمُ اللَّهُ فَاقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ** مِنْهُ وَاقْعُدْ كَرِيمًا نَاعِمَ الْبَالِ

والمعنى: فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم بِأَعْيُنِنا في موضع الحال، بمعنى: اصنعها محفوظا، وحقيقته: ملتبسًا بأعيننا، كأن للّه معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب، وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ووحينا: وأنا نوحى إليك ونلهمك كيف تصنع. عن ابن عباس رضي الله عنه: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى اللّه إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر {وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} إنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك وقضى به القضاء وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، كقوله: {يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.